ضربات اليمن- تصعيد أمريكي وخطر عودة الحرب ومعاناة إنسانية متفاقمة.

الأوضاع في اليمن تشهد تحولات متسارعة في أعقاب الغارات الجوية الأمريكية الأخيرة التي استهدفت مواقع في صنعاء، صعدة، البيضاء، ومناطق يمنية أخرى، حيث طالت هذه الضربات أهدافًا عسكرية ومواقع قيادات حوثية. هذا التصعيد المتزايد يثير القلق العميق لدى اليمنيين، الذين يخشون من عودة شبح الحرب إلى بلادهم، خاصة في ظل التهديدات المتبادلة بين الحوثيين والولايات المتحدة بمواصلة الهجمات.
الغارات الجوية الأمريكية الأخيرة خلفت، بحسب مصادر حوثية، عشرات الضحايا المدنيين الأبرياء، بمن فيهم نساء وأطفال. ومن الجدير بالذكر أن الحوثيين قد أبدوا موقفًا واضحًا وصريحًا تجاه الحرب الدائرة في غزة منذ بدايتها، حيث بدأوا باستهداف السفن والملاحة الدولية التابعة لإسرائيل في منطقة البحر الأحمر، مؤكدين باستمرار أن هذه الهجمات لن تتوقف طالما استمر نزيف الدم والمعاناة في غزة.
وفي الوقت الحالي، يطالب الحوثيون المجتمع الدولي، بعد تعثر جهود وقف إطلاق النار في غزة وتفاقم الأوضاع الإنسانية جراء الحصار الإسرائيلي، بالتحرك العاجل لإدخال المواد الغذائية والإمدادات الطبية إلى غزة، وذلك مقابل وقف هجماتهم في منطقة البحر الأحمر.
القيادة الحوثية كانت قد منحت العالم مهلة أربعة أيام قبل بدء هجماتها الأخيرة، وذلك لإدخال المساعدات الغذائية إلى غزة، وإلا فإنها ستستأنف هجماتها في البحر الأحمر، مستهدفةً بشكل خاص الملاحة الإسرائيلية.
وفي حين أن هذا الموقف الجريء قد أكسب الحوثيين تعاطفًا شعبيًا واسعًا في العالم العربي والإسلامي، إلا أن الكثير من اليمنيين القاطنين تحت سيطرة الحوثيين يخشون من التداعيات الخطيرة لهذا التصعيد الأخير على وضعهم الإنساني المتدهور أصلًا.
تداول اليمنيون على نطاق واسع، بعد الهجمات الأمريكية الأخيرة ضد الحوثيين في صنعاء، مقاطع فيديو مؤثرة لمواطنين يمنيين، تجسد حجم الدمار والرعب الذي أصاب المدنيين الأبرياء في اليمن.
وعلى الرغم من التعاطف الشعبي اليمني الكبير مع القضية الفلسطينية، يرى اليمنيون في الوقت ذاته أنفسهم ضحايا لمعاناة ومأساة إنسانية متفاقمة استمرت لأكثر من عقد من الزمان، متطلعين إلى يوم ينعمون فيه بالأمن والسلام، حتى يتمكن المسافر من التنقل بين حضرموت وصنعاء دون خوف إلا من الله والذئب على ماشيته.
الأهداف الأمريكية من هذه الضربات الجوية
تبدو الأهداف الأمريكية من وراء هذه الضربات الجوية واضحة وجلية، حيث تسعى من خلالها إلى إيقاف الهجمات الحوثية في البحر الأحمر، وتوجيه رسالة قوية مفادها أن إدارة الرئيس الأمريكي جادة في فرض سيطرتها على هذه المنطقة الحيوية من العالم. بالإضافة إلى ذلك، تهدف هذه الضربات إلى إرسال رسالة تحذيرية إلى إيران، وتحميلها مسؤولية دعم الحوثيين في صنعاء.
وعلى الرغم من قوة هذه الضربات الجوية الأمريكية، فإنه من المستبعد أن تؤدي إلى انهيار النظام الحوثي في صنعاء، الذي ظل صامدًا ومتماسكًا لأكثر من عشر سنوات، وقاوم خلالها آلاف الغارات الجوية المميتة دون أن تفلح في إسقاطه.
لا يزال نظام جماعة الحوثي السياسي يتمتع بشباب وقدرة على التكيف، وهو أقل اعتمادًا على أي قوة إقليمية أو دولية للحفاظ على بقائه، على الرغم من الدعم العسكري والتسليح الذي حصل عليه من إيران.
لقد كان الحوثيون يديرون معاركهم بأنفسهم طوال فترة الحرب اليمنية، بالرغم من وجود عدد محدود من الخبراء العسكريين الإيرانيين وعناصر من حزب الله.
كذلك يعتمد الحوثيون اعتمادًا كبيرًا على أنصارهم وقاعدتهم الاجتماعية اليمنية في فرض الأمن وإدارة الدولة بشكل صارم في مناطق سيطرتهم، دون أي تأثير أو نفوذ يذكر من جهة خارجية.
لذا، فإن تكلفة الحسم العسكري ضد الحوثيين ستكون باهظة جدًا، مقارنة بما حدث مع النظام السوري السابق بقيادة بشار الأسد. وعلى عكس بشار الأسد، الذي افتقد القدرة على امتلاك المبادرة السياسية والتعامل بفاعلية مع المستجدات الإقليمية، أظهر الحوثيون براعة في المناورات السياسية عندما تجاوبوا مع مبادرات حسن النية من قبل المملكة العربية السعودية، تجسدت في استقبال سفير المملكة العربية السعودية في صنعاء، وإرسال العديد من الوفود الحوثية إلى السعودية للتفاوض في قضايا مختلفة.
ولكن يجب على الحوثيين أيضًا أن يدركوا خطورة مواجهة إدارة الرئيس الأمريكي ترامب، وما يترتب عليها من مخاطر جسيمة، كما فعلوا مع الرئيس بايدن في منطقة البحر الأحمر. ردة فعل ترامب ستكون أكثر عنفًا وقسوة تجاه الحوثيين في حال استمرار هجماتهم في البحر الأحمر، حيث سيستهدف المزيد من قدراتهم العسكرية وقياداتهم السياسية، وربما يضيّق الخناق الاقتصادي عليهم بشكل كبير، مما سيزيد من المعاناة الإنسانية في اليمن إلى حد الانفجار.
كما أن الحرب اليمنية، في حال اندلاعها مجددًا، لن تكون خاطفة وسريعة كما هو الحال في سوريا، وربما تفتح الباب لتقسيم وتفتيت الصراع اليمني، مما يهدد الأمن والاستقرار الإقليميين.
وستظل رغبة إدارة الرئيس الأمريكي ترامب قائمة في تقليص النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، خاصة بعد خسارة النظام الإيراني لحلفائه في سوريا وحزب الله في لبنان.
ويتساءل الكثيرون في الشارع اليمني عن احتمالية عودة الحرب إلى بلادهم مرة أخرى، لاستكمال حلقة استهداف حلفاء إيران في المنطقة، وذلك بإسقاط جماعة الحوثي.
لقد عاش اليمنيون كارثة إنسانية هي من بين الأسوأ في العالم، نتيجة لحرب شرسة دامت أكثر من سبع سنوات، وحصار اقتصادي خانق تجرع فيه اليمنيون مرارة الفقر والجوع والمرض وانقطاع رواتب معظم موظفي القطاع الحكومي، بمن فيهم المعلمون والعاملون في قطاعات خدمية حيوية، طيلة فترة الحرب وحتى الآن.
ولكن لا يبدو أن الرئيس الأمريكي يرغب في الوقت الراهن في إرسال قوات برية إلى اليمن للقضاء على جماعة الحوثي، نظرًا للتكلفة المادية والبشرية الباهظة لذلك، وغياب مصالح استراتيجية حيوية للولايات المتحدة الأمريكية في اليمن.
ربما لن يكون قرار عودة الحرب في اليمن قرارًا يمنيًا خالصًا. ستعود الحرب متى ما قررت إدارة ترامب ضرورة إزاحة الحوثيين من حكم شمال اليمن، نتيجة لتماديهم في استهداف الملاحة الدولية أو استمرار هجماتهم ضد إسرائيل، في حال فشل جهود وقف الحرب الشاملة في غزة.
وحينها قد تتصاعد الضربات الجوية الأمريكية والبريطانية ضد أهداف عسكرية استراتيجية تحت سيطرة الحوثيين، بالإضافة إلى أهداف اقتصادية حيوية تستهدف تقويض ما تبقى من القوة الاقتصادية في مناطق سيطرة الحوثيين، بهدف تحفيز المزيد من السخط الشعبي ضد حكمهم.
وربما تحاول إدارة الرئيس الأمريكي ترامب التنسيق بين القوى العسكرية اليمنية المناهضة للحوثيين في توجيه زحف بري متناسق من محاور مختلفة لإسقاط المحافظات اليمنية الواحدة تلو الأخرى حتى الوصول إلى مدينة صنعاء.
هل تقود الحكومة الشرعية اليمنية الحرب البرية ضد الحوثيين؟
سيحتاج اليمنيون إلى قيادة حازمة تمتلك خبرة قتالية عميقة وسيطرة كاملة على قواتها القتالية، وذلك من أجل قيادة حرب سريعة وخاطفة في اليمن تنهي سيطرة الحوثيين في صنعاء.
تعاني الحكومة الشرعية من نقص في السيطرة الكاملة على قوات قتالية قادرة على التحرك بسرعة فائقة لإحداث انهيارات مفاجئة ومتتالية في صفوف الحوثيين، كما حدث في سوريا.
وتدرك حكومة العليمي ضعفها السياسي علمًا يقينيًا، بالإضافة إلى تشتت القوى العسكرية المنضوية تحت لواء المعارضة للحوثيين إلى ما يشبه ثلاث قوى عسكرية متفرقة، لا يتمتع العليمي بأي صلاحيات مطلقة في أي منها.
فهناك الجيش اليمني المتمركز في مأرب، والذي تميل قيادته العسكرية إلى التوافق مع التجمع اليمني للإصلاح، وهو أكبر التيارات السياسية الإسلامية في البلاد، الذي قاد لواء المعارضة ضد نظام الرئيس علي عبدالله صالح في فترة الربيع العربي، قبل تنازل الأخير عن الحكم وتحالفه الغريب مع الحوثي، انتقامًا من قوى الربيع اليمني، بما فيها حزب الإصلاح.
وهناك أيضًا قوة عسكرية أخرى متواجدة في منطقة البحر الأحمر تحت قيادة القائد العسكري طارق محمد صالح، ابن أخي الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، الذي كان حليفًا قويًا للحوثيين قبل مقتل الرئيس صالح في نهاية العام 2017.
أما الطرف العسكري الثالث المناوئ للحوثيين، فيتمثل في القوة العسكرية المنضوية تحت قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي، بقيادة عيدروس الزبيدي، حيث تسعى هذه القوة العسكرية إلى تحقيق انفصال فعلي للجنوب اليمني، واستعادة دولته السابقة قبل الوحدة اليمنية، الأمر الذي يثير قلقًا حقيقيًا في أوساط القوى السياسية الأخرى، مثل التجمع اليمني للإصلاح.
وعلى الرغم من اشتراك هذه القوى الثلاث في عدائها للحوثي، فإن التناقضات السياسية التي تجمعها حاليًا أكبر من عدوها الحوثي المشترك. وللأسف الشديد، تفتقر الساحة اليمنية حاليًا إلى شخصية سياسية محنكة وبارعة تجتمع عليها كل القوى العسكرية والسياسية المعارضة للحوثيين.
سيظل خيار عودة الحرب أمرًا واردًا إذا أساء الحوثيون قراءة واقعهم السياسي والتغيرات الإقليمية والدولية في ظل إدارة الرئيس الأمريكي ترامب. يجب عليهم أن يدركوا أن إيران لن ترسل أساطيلها البحرية أو جيوشها لحماية نظامهم، وهم الأبعد مسافةً من سوريا والأعلى تكلفة.
يأمل اليمنيون أن يصغي الحوثيون إلى صوت العقل، وأن يجلسوا مع إخوانهم في الحكومة الشرعية اليمنية لتغليب الحكمة اليمنية الأصيلة من أجل تحقيق سلام دائم وشامل وعادل في اليمن، بدلًا من تصعيد الهجمات الحالية وقرع طبول الحرب وإراقة الدماء اليمنية.